فصل: بَابُ الْخُرُوجِ:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: المبسوط



.بَابُ الدُّخُولِ:

(قَالَ) رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: وَإِذَا حَلَفَ لَا يَدْخُلُ بَيْتًا لِفُلَانٍ، وَلَمْ يُسَمِّ بَيْتًا بِعَيْنِهِ، وَلَمْ يَكُنْ لَهُ نِيَّةٌ فَدَخَلَ بَيْتًا هُوَ فِيهِ سَاكِنٌ بِأَجْرٍ أَوْ عَارِيَّةٍ، فَهُوَ حَانِثٌ عِنْدَنَا، وَقَالَ الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى: لَا يَحْنَثُ؛ لِأَنَّ الْإِضَافَةَ إلَى فُلَانٍ بِالْمِلْكِ حَقِيقَةٌ وَبِالسُّكْنَى مَجَازٌ، فَلَا تَجْتَمِعُ الْحَقِيقَةُ وَالْمَجَازُ فِي لَفْظٍ وَاحِدٍ، وَالْحَقِيقَةُ مُرَادَةٌ بِالِاتِّفَاقِ، فَيَتَنَحَّى الْمَجَازُ، وَاللَّامُ فِي قَوْلِهِ لِفُلَانٍ دَلِيلُ الْمِلْكِ أَيْضًا.
(وَحُجَّتُنَا) فِي ذَلِكَ أَنَّهُ عَقَدَ يَمِينَهُ عَلَى الْإِضَافَةِ إلَى فُلَانٍ، وَمَا يَسْكُنُهُ فُلَانٌ عَارِيَّةً أَوْ إجَارَةً مُضَافٌ إلَيْهِ بِمَنْزِلَةِ مَا يَسْكُنُهُ بِالْمِلْكِ، أَلَا تَرَى أَنَّك تَقُولُ: بَيْتُ فُلَانٍ وَمَنْزِلُ فُلَانٍ، وَإِنْ كَانَ نَازِلًا فِيهِ بِأَجْرٍ أَوْ عَارِيَّةً، فَكَذَلِكَ مَعَ حَرْفِ اللَّامِ فَإِنَّ النَّبِيَّ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ حِينَ قَالَ لِرَافِعِ بْنِ خَدِيجٍ: «لِمَنْ هَذَا الْحَائِطُ؟ فَقَالَ: لِي اسْتَأْجَرْتُهُ»، لَمْ يُنْكِرْ عَلَيْهِ إضَافَتَهُ إلَى نَفْسِهِ بِحَرْفِ اللَّامِ، وَلَا يَقُولُ: إنَّهُ إذَا دَخَلَ بَيْتًا هُوَ مِلْكُ فُلَانٍ أَنَّهُ يَحْنَثُ بِحَقِيقَةِ الْإِضَافَةِ بِالْمِلْكِ لِوُجُودِ الْإِضَافَةِ بِالسُّكْنَى وَحَاصِلُ هَذَا الْكَلَامِ أَنَّهُ يَحْنَثُ بِاعْتِبَارِ عُمُومِ الْمَجَازِ، وَفِي ذَلِكَ الْمِلْكُ وَالْمُسْتَعَارُ سَوَاءٌ، كَمَنْ حَلَفَ لَا يَضَعُ قَدَمَهُ فِي دَارِ فُلَانٍ فَدَخَلَهَا حَافِيًا أَوْ مُتَنَعِّلًا أَوْ رَاكِبًا، يَحْنَثُ بِاعْتِبَارِ عُمُومِ الْمَجَازِ، وَهُوَ الدُّخُولُ دُونَ حَقِيقَةِ وَضْعِ الْقَدَمِ، (فَإِنْ قِيلَ): كَيْفَ يَكُونُ لِلْمَجَازِ عُمُومٌ، وَالْمَصِيرُ إلَيْهِ بِطَرِيقِ الضَّرُورَةِ؟ (قُلْنَا): الْعُمُومُ لِلْحَقِيقَةِ لَيْسَ بِاعْتِبَارِ أَنَّهُ حَقِيقَةٌ، بَلْ بِدَلِيلِ ذَلِكَ الدَّلِيلِ بِعَيْنِهِ مَوْجُودٌ فِي الْمَجَازِ؛ وَهَذَا لِأَنَّ الْمَجَازَ كَالْمُسْتَعَارِ، وَيَحْصُلُ بِلُبْسِ الثَّوْبِ الْمُسْتَعَارِ دَفْعُ الْحَرِّ وَالْبَرْدِ، كَمَا يَحْصُلُ بِلُبْسِ الثَّوْبِ الْمَمْلُوكِ، وَلَا يُقَالُ: بِأَنَّ الْمَجَازَ يُصَارُ إلَيْهِ لِلضَّرُورَةِ بَلْ هُوَ أَحَدُ قِسْمَيْ الْكَلَامِ، أَلَا تَرَى أَنَّ فِي كِتَابِ اللَّهِ تَعَالَى مَجَازًا وَحَقِيقَةً، وَاَللَّهُ تَعَالَى يَتَعَالَى أَنْ تَلْحَقَهُ الضَّرُورَةُ، فَعَرَفْنَا أَنَّ الْعُمُومَ يُعْتَبَرُ فِي الْمَجَازِ، كَمَا فِي الْحَقِيقَةِ، وَعَلَى هَذَا رُوِيَ عَنْ مُحَمَّدٍ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى أَنَّهُ إذَا حَلَفَ لَا يَدْخُلُ بَيْتًا لِفُلَانٍ، فَدَخَلَ بَيْتًا أَجَّرَهُ فُلَانٌ مِنْ غَيْرِهِ، لَمْ يَحْنَثْ؛ لِأَنَّهُ مُضَافٌ إلَى الْمُسْتَأْجِرِ بِالسُّكْنَى دُونَ الْآجِرِ.
وَلَوْ حَلَفَ لَا يَسْكُنُ حَانُوتًا لِفُلَانٍ، فَسَكَنَ حَانُوتًا أَجَّرَهُ، فَإِنْ كَانَ فُلَانٌ مِمَّنْ لَا يَسْكُنُ حَانُوتًا، لَا يَحْنَثُ بِهَذَا أَيْضًا، وَإِنْ كَانَ يَسْكُنُ حَانُوتًا، فَحِينَئِذٍ يَحْنَثُ لِمَا عُرِفَ مِنْ مَقْصُودِ الْحَالِفِ، فَإِنَّ مَنْ حَلَفَ لَا يَسْكُنُ حَانُوتَ الْأَمِيرِ يَعْلَمُ كُلُّ أَحَدٍ أَنَّ مُرَادَهُ حَانُوتٌ يَمْلِكُهُ الْأَمِيرُ، وَإِذَا حَلَفَ لَا يَدْخُلُ عَلَى فُلَانٍ، وَلَمْ يُسَمِّ شَيْئًا، وَلَمْ يَكُنْ لَهُ نِيَّةٌ فَدَخَلَ عَلَيْهِ بَيْتَهُ، أَوْ فِي بَيْتِ غَيْرِهِ أَوْ فِي صِفَةٍ حَنِثَ؛ لِأَنَّهُ وُجِدَ الدُّخُولُ عَلَى فُلَانٍ.
فَإِنَّ الدُّخُولَ عَلَيْهِ فِي مَوْضِعٍ يَبِيتُ هُوَ فِيهِ، أَوْ يَجْلِسُ لِدُخُولِ الزَّائِرِينَ عَلَيْهِ، وَذَلِكَ يَكُونُ فِي بَيْتِهِ تَارَةً وَفِي بَيْتِ غَيْرِهِ أُخْرَى، وَالصِّفَةُ فِي هَذِهِ كَالْبَيْتِ، فَيَحْنَثُ لِهَذَا، وَإِنْ دَخَلَ عَلَيْهِ فِي مَسْجِدٍ لَمْ يَحْنَثْ؛ لِأَنَّهُ مُعَدٌّ لِلْعِبَادَةِ فِيهِ لَا لِلْبَيْتُوتَةِ وَالْجُلُوسِ لِدُخُولِ الزَّائِرِينَ عَلَيْهِ، وَكَذَلِكَ إنْ دَخَلَ عَلَيْهِ فِي ظُلَّةٍ أَوْ سَقِيفَةٍ، أَوْ دِهْلِيزِ بَابِ دَارٍ لَمْ يَحْنَثْ؛ لِأَنَّ الْعُرْفَ الظَّاهِرَ أَنَّ جُلُوسَهُ لِدُخُولِ الزَّائِرِينَ عَلَيْهِ، لَا يَكُونُ فِي مِثْلِ هَذِهِ الْمَوَاضِعِ عَادَةً، وَإِنَّمَا يَكُونُ نَادِرًا عِنْدَ الضَّرُورَةِ، فَأَمَّا الْجُلُوسُ عَادَةً يَكُونُ فِي الصِّفَةِ أَوْ الْبَيْتِ، فَهُوَ وَإِنْ أَتَاهُ فِي هَذِهِ الْمَوَاضِعِ لَا يَكُونُ دَاخِلًا عَلَيْهِ، وَلَا يَحْنَثُ، وَكَذَلِكَ لَوْ دَخَلَ عَلَيْهِ فِي فُسْطَاطٍ أَوْ خَيْمَةٍ، أَوْ بَيْتِ شَعْرٍ، لَمْ يَحْنَثْ، إلَّا أَنْ يَكُونَ الْحَالِفُ مِنْ أَهْلِ الْبَادِيَةِ، وَالْحَاصِلُ أَنَّهُ جَعَلَ قَوْلَهُ: لَا أَدْخُلُ عَلَى فُلَانٍ، وَقَوْلُهُ: لَا أَدْخُلُ عَلَيْهِ بَيْتًا سَوَاءً لِاعْتِبَارِ الْعُرْفِ كَمَا بَيَّنَّا.
وَإِذَا حَلَفَ لَا يَدْخُلُ عَلَيْهِ بَيْتًا فَدَخَلَ عَلَيْهِ فِي الْمَسْجِدِ، أَوْ فِي الْكَعْبَةِ لَمْ يَحْنَثْ؛ لِأَنَّهُ مُصَلًّى، وَالْبَيْتُ اسْمٌ لِلْمَوْضِعِ الْمُعَدِّ لِلْبَيْتُوتَةِ فِيهِ.
(فَإِنْ قِيلَ): أَلَيْسَ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى سَمَّى الْكَعْبَةَ بَيْتًا بِقَوْلِهِ: {إنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ}، وَسَمَّى الْمَسَاجِدَ بُيُوتًا فِي قَوْلِهِ: {فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللَّهُ}؟ (قُلْنَا): قَدْ بَيَّنَّا أَنَّ الْأَيْمَانَ لَا تَنْبَنِي عَلَى لَفْظِ الْقُرْآنِ، وَقَدْ سُمِّيَ بَيْتُ الْعَنْكَبُوتِ بَيْتًا، فَقَالَ: {وَإِنَّ أَوْهَنَ الْبُيُوتِ لَبَيْتُ الْعَنْكَبُوتِ}.
ثُمَّ هَذَا لَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ مُطْلَقَ اسْمِ الْبَيْتِ فِي الْيَمِينِ يَتَنَاوَلُهُ.
(قَالَ): وَكُلُّ شَيْءٍ مِنْ الْمَسَاكِنِ يَقَعُ عَلَيْهِ اسْمُ بَيْتٍ حَنِثَ فِيهِ، وَإِنْ دَخَلَ، وَمُرَادُهُ مَا يُطْلَقُ عَلَيْهِ الِاسْمُ عَادَةً فِي الِاسْتِعْمَالِ، وَإِنْ دَخَلَ بَيْتًا هُوَ فِيهِ، وَلَمْ يَنْوِ الدُّخُولَ عَلَيْهِ لَمْ يَحْنَثْ؛ لِأَنَّ شَرْطَ حِنْثِهِ الدُّخُولُ عَلَيْهِ، وَذَلِكَ بِأَنْ يَقْصِدَ زِيَارَتَهُ، أَوْ الِاسْتِخْفَافَ بِهِ بِأَنْ يَقْصِدَ ضَرْبَهُ، وَهَذَا لَمْ يُوجَدْ إذَا لَمْ يَنْوِ الدُّخُولَ عَلَيْهِ، أَوْ لَمْ يَعْلَمْ أَنَّهُ فِيهِ، أَلَا تَرَى أَنَّ السَّقَّاءَ يَدْخُلُ دَارَ الْأَمِيرِ فِي كُلِّ يَوْمٍ، وَلَا يُقَالُ: دَخَلَ عَلَى الْأَمِيرِ، وَقَدْ رُوِيَ عَنْ مُحَمَّدٍ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى أَنَّهُ يَحْنَثُ، وَإِنْ لَمْ يَعْلَمْ كَوْنَهُ فِيهِ، وَلَمْ يَنْوِ الدُّخُولَ عَلَيْهِ بِأَنْ دَخَلَ عَلَى قَوْمٍ هُوَ فِيهِمْ، وَالْحَالِفُ لَا يَعْلَمُ بِمَكَانِهِ؛ لِأَنَّ حَقِيقَةَ الدُّخُولِ عَلَيْهِ قَدْ وُجِدَ، وَلَا يَسْقُطُ حُكْمُهُ بِاعْتِبَارِ جَهْلِهِ، وَإِذَا حَلَفَ لَا يَدْخُلُ عَلَى فُلَانٍ، وَلَمْ يُسَمِّ بَيْتًا، وَلَمْ يَنْوِهِ فَدَخَلَ دَارًا هُوَ فِيهَا لَمْ يَحْنَثْ، أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَوْ كَانَ فِي بَيْتٍ مِنْهَا لَا يَرَاهُ الدَّاخِلُ، فَإِنَّهُ لَا يَكُونُ دَاخِلًا عَلَيْهِ، أَرَأَيْت أَنَّهُ لَوْ كَانَتْ الدَّارُ عَظِيمَةً فِيهَا مَنَازِلُ، فَدَخَلَ مَنْزِلًا مِنْهَا، وَفُلَانٌ فِي مَنْزِلٍ آخَرَ كَانَ يَحْنَثُ، إنَّمَا يَقَعُ الْيَمِينُ فِي هَذَا إذَا دَخَلَ عَلَيْهِ بَيْتًا أَوْ صِفَةً؛ لِأَنَّهُ حِينَئِذٍ يَكُونُ دَاخِلًا عَلَيْهِ حَقِيقَةً، إلَّا أَنْ يَكُونَ حَلَفَ أَنْ لَا يَدْخُلَ عَلَيْهِ دَارًا، فَحِينَئِذٍ يَحْنَثُ إذَا دَخَلَ دَارِهِ؛ لِأَنَّ اعْتِبَارَ الْعُرْفِ عِنْدَ عَدَمِ التَّصْرِيحِ بِخِلَافِهِ، وَكَذَلِكَ إنْ نَوَى دَارًا؛ لِأَنَّهُ يُشَدِّدُ الْأَمْرَ عَلَى نَفْسِهِ بِهَذِهِ النِّيَّةِ.
وَلَوْ حَلَفَ لَا يَدْخُلُ بَيْتًا وَهُوَ فِيهِ دَاخِلٌ فَمَكَثَ فِيهِ أَيَّامًا لَمْ يَحْنَثْ؛ لِأَنَّ الدُّخُولَ هُوَ الِانْفِصَالُ مِنْ الْخَارِجِ إلَى الدَّاخِلِ، وَلَمْ يُوجَدْ ذَلِكَ بَعْدَ يَمِينِهِ.
إنَّمَا وُجِدَ الْمُكْثُ فِيهِ، وَذَلِكَ غَيْرُ الدُّخُولِ، وَهَذَا بِخِلَافِ السُّكْنَى؛ لِأَنَّهُ فِعْلٌ مُسْتَدَامٌ يُضْرَبُ لَهُ مُدَّةٌ فَتَكُونُ لِلِاسْتِدَامَةِ فِيهِ حُكْمُ الْإِنْشَاءِ، فَأَمَّا الدُّخُولُ فَلَيْسَ بِمُسْتَدَامٍ، أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَا يُضْرَبُ لَهُ الْمُدَّةُ، فَإِنَّهُ لَا يُقَالُ: دَخَلَ يَوْمًا أَوْ شَهْرًا، إنَّمَا يُقَالُ: دَخَلَ وَمَكَثَ فِيهِ يَوْمًا وَلَوْ قَالَ: وَاَللَّهِ لِأَدْخُلَنَّهُ غَدًا، فَأَقَامَ فِيهِ حَتَّى مَضَى الْغَدُ حَنِثَ؛ لِأَنَّ شَرْطَ بِرِّهِ وُجُودُ فِعْلِ الدُّخُولِ فِي غَدٍ، وَلَمْ يُوجَدْ، إنَّمَا وُجِدَ الْمُكْثُ فِيهِ فَإِذَا نَوَى بِالدُّخُولِ الْإِقَامَةَ لَمْ يَحْنَثْ؛ لِأَنَّ الْمَنْوِيَّ مِنْ مُحْتَمَلَاتِ لَفْظِهِ، فَإِنَّ الدُّخُولَ لِمَقْصُودِ الْإِقَامَةِ وَكَأَنَّهُ جَعَلَ ذِكْرَ الدُّخُولِ كِنَايَةً عَمَّا هُوَ الْمَقْصُودُ، فَلِهَذَا لَمْ يَحْنَثْ.
وَإِنْ قَالَ: وَاَللَّهِ لَا أَدْخُلُهَا إلَّا عَابِرَ سَبِيلٍ فَدَخَلَهَا لِيَقْعُدَ فِيهَا، أَوْ يَعُودَ مَرِيضًا، أَوْ يُطْعِمَ حَنِثَ؛ لِأَنَّهُ عَقَدَ يَمِينَهُ عَلَى الدُّخُولِ، وَاسْتَثْنَى دُخُولًا بِصِفَةٍ، وَهُوَ أَنْ يَكُونَ عَابِرَ سَبِيلٍ أَيْ مُجْتَازًا وَمَارَّ طَرِيقٍ.
قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {وَلَا جُنُبًا إلَّا عَابِرِي سَبِيلٍ}.
وَقَدْ وُجِدَ الدُّخُولُ لَا عَلَى الْوَجْهِ الْمُسْتَثْنَى فَيَحْنَثُ، وَإِنْ دَخَلَهَا مُجْتَازًا، ثُمَّ بَدَا لَهُ أَنْ يَقْعُدَ فِيهَا لَمْ يَحْنَثْ؛ لِأَنَّ دُخُولَهُ عَلَى الْوَجْهِ الْمُسْتَثْنَى فَلَمْ يَحْنَثْ بِهِ، وَبَقِيَ مَا وَرَاءَ ذَلِكَ مَكَثَ فِي الدَّارِ، وَذَلِكَ غَيْرُ الدُّخُولِ، فَلَا يَحْنَثُ بِهِ أَيْضًا، وَإِنْ نَوَى بِكَلَامِهِ أَنْ لَا يَدْخُلَهَا لَا يُرِيدُ النُّزُولَ فِيهَا صَحَّتْ نِيَّتُهُ؛ لِأَنَّهُ عَابِرُ سَبِيلٍ يَكُونُ مُجْتَازًا فِي مَوْضِعٍ، وَلَا يَكُونُ نَازِلًا فِيهِ، فَجُعِلَ هَذَا مُسْتَثْنًى دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ مُرَادَهُ مَنْعُ نَفْسِهِ مِمَّا هُوَ ضِدُّهُ، وَهُوَ الدُّخُولُ لِلنُّزُولِ فَإِذَا صَحَّتْ نِيَّتُهُ صَارَ الْمَنْوِيُّ كَالْمَلْفُوظِ، وَإِذَا دَخَلَهَا يُرِيدُ أَنْ يُطْعَمَ أَوْ يَقْعُدَ لِحَاجَةٍ، وَلَا يُرِيدُ الْمَقَامَ فِيهَا لَمْ يَحْنَثْ؛ لِأَنَّ شَرْطَ حِنْثِهِ دُخُولٌ بِصِفَةٍ، وَهُوَ أَنْ يَكُونَ لِلسُّكْنَى وَالْقَرَارِ، وَلَمْ يُوجَدْ وَإِذَا حَلَفَ لَا يَدْخُلُ دَارَ فُلَانٍ فَجَعَلَهَا بُسْتَانًا أَوْ مَسْجِدًا، وَدَخَلَهَا لَمْ يَحْنَثْ قَالَ: لِأَنَّهَا قَدْ تَغَيَّرَتْ عَنْ حَالِهَا، وَلَمْ يُرِدْ تَغَيُّرَ الْوَصْفِ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ لَا يَرْفَعُ الْيَمِينَ إذَا لَمْ يَكُنْ وَصْفًا دَاعِيًا إلَى الْيَمِينِ، وَإِنَّمَا أَرَادَ تَغْيِيرَ الِاسْمِ؛ لِأَنَّهُ عَقَدَ الْيَمِينَ بِاسْمِ الدَّارِ، وَالْبُسْتَانُ وَالْمَسْجِدُ وَالْحَمَّامُ غَيْرُ الدَّارِ فَإِذَا لَمْ يَبْقَ ذَلِكَ الِاسْمُ لَا يَبْقَى الْيَمِينُ، وَكَذَلِكَ لَوْ كَانَتْ دَارًا صَغِيرَةً فَجَعَلَهَا بَيْتًا وَاحِدًا، وَأَشْرَعَ بَابَهُ إلَى الطَّرِيقِ، أَوْ إلَى دَارٍ فَدَخَلَهُ لَمْ يَحْنَثْ؛ لِأَنَّهَا قَدْ تَغَيَّرَتْ، وَصَارَتْ بَيْتًا، وَهَذَا إشَارَةٌ إلَى مَا قُلْنَا: أَنَّ اسْمَ الْبَيْتِ غَيْرُ اسْمِ الدَّارِ، فَمِنْ ضَرُورَةِ حُدُوثِ اسْمِ الْبَيْتِ لِهَذِهِ الْبُقْعَةِ زَوَالُ اسْمِ الدَّارِ وَإِنْ حَلَفَ لَا يَدْخُلُ بَيْتًا بِعَيْنِهِ فَهُدِمَ سَقْفُهُ، وَبَقِيَتْ حِيطَانُهُ فَدَخَلَهُ يَحْنَثُ؛ لِأَنَّهُ بَيْتٌ، وَإِنْ انْهَدَمَ سَقْفُهُ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {فَتِلْكَ بُيُوتُهُمْ خَاوِيَةً بِمَا ظَلَمُوا} أَيْ سَاقِطَةً سَقْفُهَا؛ وَلِأَنَّ الْبَيْتَ اسْمٌ لِمَا هُوَ صَالِحٌ لِلْبَيْتُوتَةِ فِيهِ، وَمَا بَقِيَتْ الْحِيطَانُ فَهُوَ صَالِحٌ لِذَلِكَ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ مُسْقَفًا بِخِلَافِ مَا لَوْ انْهَدَمَتْ الْحِيطَانُ؛ لِأَنَّهُ صَارَ صَحْرَاءَ غَيْرَ صَالِحٍ لِلْبَيْتُوتَةِ، فَلَا يَتَنَاوَلُهُ اسْمُ الْبَيْتِ.
وَإِنْ حَلَفَ لَا يَدْخُلُ دَارَ فُلَانٍ، فَاحْتَمَلَهُ إنْسَانٌ فَأَدْخَلَهُ وَهُوَ كَارِهٌ لَمْ يَحْنَثْ؛ لِأَنَّهُ مُدْخَلٌ لَا دَاخِلٌ، أَلَا تَرَى أَنَّ الْمَيِّتَ قَدْ يَدْخُلُ الدَّارَ، وَفِعْلُ الدُّخُولِ مِنْهُ لَا يَتَحَقَّقُ، وَإِنْ أَدْخَلَهُ بِأَمْرِهِ حَنِثَ؛ لِأَنَّ فِعْلَ الْغَيْرِ بِأَمْرِهِ كَفِعْلِهِ بِنَفْسِهِ، فَأَمَّا إذَا لَمْ يَأْمُرْهُ، وَلَكِنَّهُ غَيْرُ مُمْتَنِعٍ رَاضٍ بِقَلْبِهِ حَتَّى أَدْخَلَهُ، فَقَدْ قَالَ بَعْضُ مَشَايِخِنَا يَحْنَثُ؛ لِأَنَّهُ لَمَّا كَانَ مُتَمَكِّنًا مِنْ الِامْتِنَاعِ، فَلَمْ يَفْعَلْ صَارَ كَالْآمِرِ بِهِ، وَإِدْخَالُهُ مُكْرَهًا إنَّمَا يَكُونُ مُسْتَثْنًى؛ لِأَنَّهُ لَا يَسْتَطِيعُ الِامْتِنَاعَ عَنْهُ، وَالْأَصَحُّ أَنَّهُ لَا يَحْنَثُ؛ لِأَنَّهُ عَقَدَ يَمِينَهُ عَلَى فِعْلِ نَفْسِهِ، وَقَدْ انْعَدَمَ فِعْلُهُ حَقِيقَةً وَحُكْمًا؛ لِأَنَّ فِعْلَ الْغَيْرِ يُغَيِّرُهُ أَمْرُهُ، وَاسْتِعْمَالُهُ إيَّاهُ لَا يَصِيرُ مُضَافًا إلَيْهِ حُكْمًا إلَّا بِأَمْرِهِ، وَلَمْ يُوجَدْ، أَمَّا بِتَرْكِ الْمَنْعِ وَالرِّضَا بِالْقَلْبِ فَلَا، وَإِنْ دَخَلَهَا عَلَى دَابَّةٍ حَنِثَ؛ لِأَنَّ سَيْرَ الدَّابَّةِ يُضَافُ إلَى رَاكِبِهَا، أَلَا تَرَى أَنَّ الرَّاكِبَ ضَامِنٌ لِمَا تَطَأُ دَابَّتُهُ، وَأَنَّهُ يَتَمَكَّنُ مِنْ إيقَافِهِ مَتَى شَاءَ، فَكَانَ هَذَا وَالدُّخُولُ مَاشِيًا سَوَاءً.
وَإِنْ حَلَفَ لَا يَضَعُ قَدَمَهُ فِيهَا فَدَخَلَهَا رَاكِبًا أَوْ مَاشِيًا عَلَيْهِ حِذَاءٌ، أَوْ لَمْ يَكُنْ حَنِثَ؛ لِأَنَّ وَضْعَ الْقَدَمِ عِبَارَةٌ عَنْ الدُّخُولِ عَرْفًا، فَإِذَا نَوَى حِينَ حَلَفَ أَنْ لَا يَضَعَ قَدَمَهُ مَاشِيًا فَدَخَلَهَا رَاكِبًا لَمْ يَحْنَثْ؛ لِأَنَّهُ نَوَى حَقِيقَةَ كَلَامِهِ، وَهَذِهِ حَقِيقَةٌ مُسْتَعْمَلَةٌ غَيْرُ مَهْجُورَةٍ، وَإِنْ حَلَفَ لَا يَدْخُلُهَا فَقَامَ عَلَى حَائِطٍ مِنْ حِيطَانِهَا حَنِثَ؛ لِأَنَّهُ قَدْ دَخَلَهَا، فَإِنَّ الْقَائِمَ عَلَى حَائِطٍ مِنْ حِيطَانِهَا لَيْسَ بِخَارِجٍ مِنْهَا، فَعَرَفْنَا أَنَّهُ دَاخِلٌ فِيهَا، أَلَا تَرَى أَنَّ السَّارِقَ لَوْ أُخِذَ فِي ذَلِكَ الْمَوْضِعِ، وَمَعَهُ الْمَالُ لَمْ يُقْطَعْ، كَمَا لَوْ أُخِذَ فِي صَحْنِ الدَّارِ.
تَوْضِيحُهُ: أَنَّ الدَّارَ اسْمٌ لِمَا أُدِيرَ عَلَيْهِ الْحَائِطُ، فَيَكُونُ الْحَائِطُ دَاخِلًا فِيهِ، أَلَا تَرَى أَنَّهُ يَدْخُلُ فِي بَيْعِ الدَّارِ مِنْ غَيْرِ ذِكْرٍ.
وَإِنْ حَلَفَ لَا يَدْخُلُ فِي الدَّارِ، فَقَامَ عَلَى السَّطْحِ يَحْنَثُ؛ لِأَنَّ السَّطْحَ مِنْ الدَّارِ، أَلَا تَرَى أَنَّ مَنْ نَامَ عَلَى سَطْحِ الدَّارِ يَسْتَخِيرُ مِنْ نَفْسِهِ أَنْ يَقُولَ: بِتُّ اللَّيْلَةَ فِي دَارِي، وَلَوْ قَامَ فِي طَلْقِ بَابِ الدَّارِ، وَالْبَابُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الدَّارِ لَمْ يَحْنَثْ؛ لِأَنَّ الْبَابَ لِإِحْرَازِ الدَّارِ وَمَا فِيهَا، فَكُلُّ مَوْضِعٍ إذَا رُدَّ الْبَابُ بَقِيَ خَارِجًا، فَلَيْسَ ذَلِكَ مِنْ الدَّارِ فَلَا يَحْنَثُ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَدْخُلْهَا، وَإِنْ كَانَ بِحَيْثُ لَوْ رُدَّ الْبَابُ بَقِيَ دَاخِلًا، فَهَذَا قَدْ دَخَلَهَا فَيَحْنَثُ.
وَلَوْ كَانَ دَاخِلًا فِيهَا فَحَلَفَ أَنْ لَا يَخْرُجَ فَقَامَ فِي مَقَامٍ يَكُونُ الْبَابُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الدَّارِ إذَا أُغْلِقَتْ حَنِثَ؛ لِأَنَّ الْخُرُوجَ انْفِصَالٌ مِنْ الدَّاخِلِ إلَى الْخَارِجِ، وَقَدْ وُجِدَ ذَلِكَ حِينَ وَصَلَ إلَى هَذَا الْمَوْضِعِ، وَإِنْ أَخْرَجَ إحْدَى رِجْلَيْهِ لَمْ يَحْنَثْ، وَكَذَلِكَ إنْ حَلَفَ أَنْ لَا يَدْخُلَهَا فَأَدْخَلَ إحْدَى رِجْلَيْهِ لَمْ يَحْنَثْ؛ لِأَنَّ قِيَامَهُ بِالرِّجْلَيْنِ فَلَا يَكُونُ بِأَحَدِهِمَا خَارِجًا وَلَا دَاخِلًا، أَلَا تَرَى «أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمَّا وَعَدَ أُبَيَّ بْنَ كَعْبٍ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ أَنْ يُعَلِّمَهُ سُورَةً لَيْسَ فِي التَّوْرَاةِ وَلَا فِي الْإِنْجِيلِ مِثْلُهَا قَبْلَ أَنْ يَخْرُجَ مِنْ الْمَسْجِدِ، فَعَلَّمَهُ بَعْدَ مَا أَخْرَجَ إحْدَى رِجْلَيْهِ»، وَلَمْ يَكُنْ مُخَالِفًا لِوَعْدِهِ.
مِنْ أَصْحَابنَا مَنْ يَقُولُ: هَذَا إذَا كَانَ الدَّاخِلُ وَالْخَارِجُ مُسْتَوِيَانِ، فَإِنْ كَانَ الدَّاخِلُ أَسْفَلَ مِنْ الْخَارِجِ فَبِإِدْخَالِ إحْدَى الرِّجْلَيْنِ يَصِيرُ دَاخِلًا؛ لِأَنَّ عَامَّةَ بَدَنِهِ تَمَايَلَ إلَى الدَّاخِلِ، وَإِنْ كَانَ الْخَارِجُ أَسْفَلَ مِنْ الدَّاخِلِ فَبِإِخْرَاجِ إحْدَى الرِّجْلَيْنِ يَصِيرُ خَارِجًا لِهَذَا الْمَعْنَى، وَالْأَوَّلُ أَصَحُّ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يُوجَدْ شَرْطُ الْحِنْثِ حَقِيقَةً، فَلَا يَحْنَثُ، وَاعْتِبَارُ إحْدَى الرِّجْلَيْنِ يُوجِبُ أَنْ يَكُونَ حَانِثًا، وَالرِّجْلُ الْأُخْرَى تَمْنَعُ مِنْ ذَلِكَ فَلَا يَحْنَثُ بِالشَّكِّ، وَإِنْ دَخَلَ مِنْ حَائِطٍ لَهَا حَتَّى قَامَ عَلَى سَطْحٍ مِنْ سُطُوحِهَا، فَقَدْ دَخَلَهَا؛ لِمَا بَيَّنَّا أَنَّ السَّطْحَ مِمَّا أُدِيرَ عَلَيْهِ الْحَائِطُ فَالدَّاخِلُ إلَيْهِ يَكُونُ دَاخِلًا فِيهَا، وَلَوْ دَخَلَ بَيْتًا مِنْ تِلْكَ الدَّارِ قَدْ شَرَعَ السِّكَّةَ حَنِثَ؛ لِأَنَّهُ مِمَّا أُدِيرَ عَلَيْهِ الْحَائِطُ، وَهَذَا إذَا كَانَ لِذَلِكَ الْبَيْتِ بَابٌ فِي الدَّارِ وَبَابٌ فِي السِّكَّةِ، وَإِنْ دَخَلَ فِي عُلُوِّهَا عَلَى الطَّرِيقِ الْأَعْظَمِ، أَوْ دَخَلَ كَنِيفًا مِنْهَا شَارِعًا إلَى الطَّرِيقِ حَنِثَ، وَهَذَا إذَا كَانَتْ مُفَتَّحَةً فِي الدَّارِ؛ لِأَنَّهُ مِنْ حُجَرِ الدَّارِ وَمَرَافِقِهِ، فَالدَّاخِلُ إلَيْهِ لَا يَكُونُ خَارِجًا مِنْ الدَّارِ، وَإِذَا لَمْ يَكُنْ خَارِجًا كَانَ دَاخِلًا فِي الدَّارِ.
وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أَعْلَمُ بِالصَّوَابِ.، وَإِلَيْهِ الْمَرْجِعُ وَالْمَآبُ.

.بَابُ الْخُرُوجِ:

(قَالَ) رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: وَإِذَا حَلَفَ عَلَى امْرَأَتِهِ بِالطَّلَاقِ أَنْ لَا تَخْرُجَ حَتَّى يَأْذَنَ لَهَا فَأَذِنَ لَهَا مَرَّةً سَقَطَتْ الْيَمِينُ؛ لِأَنَّ حَتَّى لِلْغَايَةِ.
قَالَ اللَّهُ تَعَالَى {حَتَّى مَطْلَعِ الْفَجْرِ} وَالْيَمِينُ يَتَوَقَّفُ بِالتَّوْقِيتِ، وَمِنْ حُكْمِ الْغَايَةِ أَنْ يَكُونَ مَا بَعْدَهَا بِخِلَافِ مَا قَبْلَهَا، فَإِذَا انْتَهَتْ الْيَمِينُ بِالْإِذْنِ مَرَّةً لَمْ يَحْنَثْ بَعْدَ ذَلِكَ، وَإِنْ خَرَجَتْ بِغَيْرِ إذْنِهِ إلَّا أَنْ يَنْوِيَ الْإِذْنَ فِي كُلِّ مَرَّةٍ، فَحِينَئِذٍ يَكُونُ مُشَدِّدًا الْأَمْرَ عَلَى نَفْسِهِ بِلَفْظٍ يَحْتَمِلُهُ، وَلَوْ قَالَ: إلَّا بِإِذْنِي فَلَا بُدَّ مِنْ الْإِذْنِ لِكُلِّ مَرَّةٍ حَتَّى إذَا خَرَجَتْ مَرَّةً بِغَيْرِ إذْنِهِ حَنِثَ؛ لِأَنَّهُ اسْتَثْنَى خُرُوجًا بِصِفَةٍ، وَهُوَ أَنْ يَكُونَ بِإِذْنِهِ فَإِنَّ الْبَاءَ لِلْإِلْصَاقِ فَكُلُّ خُرُوجٍ لَا يَكُونُ بِتِلْكَ الصِّفَةِ كَانَ شَرْطُ الْحِنْثِ، وَمَعْنَى كَلَامِهِ إلَّا مُسْتَأْذِنَةً قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {وَمَا نَتَنَزَّلُ إلَّا بِأَمْرِ رَبِّكَ} أَيْ مَأْمُورِينَ بِذَلِكَ، وَنَظِيرِهِ إنْ خَرَجَتْ إلَّا بِقِنَاعٍ أَوْ إلَّا بِمَلَاءَةٍ، فَإِذَا خَرَجَتْ مَرَّةً بِغَيْرِ قِنَاعٍ أَوْ بِغَيْرِ مَلَاءَةٍ حَنِثَ، فَأَمَّا إذَا قَالَ: إلَّا أَنْ آذَنَ لَهَا.
فَهَذَا بِمَنْزِلَتِهِ حَتَّى إذَا وُجِدَ الْإِذْنُ مَرَّةً لَا يَبْقَى الْيَمِينُ فِيهِ؛ لِأَنَّ إلَّا أَنْ بِمَعْنَى حَتَّى فِيمَا يَتَوَقَّفُ.
قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {إلَّا أَنْ يُحَاطَ بِكُمْ} أَيْ أَنْ يُحَاطَ بِكُمْ، أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَا يَسْتَقِيمُ إظْهَارُ الْمَصْدَرِ هُنَا بِخِلَافِ قَوْلِهِ: إلَّا بِإِذْنِي فَإِنَّهُ يَسْتَقِيمُ أَنْ يَقُولَ: إلَّا خُرُوجًا بِإِذْنِي فَعَرَفْنَا أَنَّهُ صِفَةٌ لِلْمُسْتَثْنِي، وَهُنَا لَوْ قَالَ إلَّا خُرُوجًا إنْ آذَنَ لَك كَانَ كَلَامًا مُخْتَلًّا، فَعَرَفْنَا أَنَّهُ بِمَعْنَى التَّوْقِيتِ، وَفِيهِ طَعَنَ الْفَرَّاءُ، وَقَدْ بَيَّنَّاهُ.
وَإِنْ حَلَفَ عَلَيْهَا أَنْ لَا تَخْرُجَ مِنْ بَيْتِهِ، فَخَرَجَتْ إلَى الدَّارِ حَنِثَ؛ لِأَنَّهُ جَعَلَ شَرْطَ الْحِنْثِ الْخُرُوجَ مِنْ الْبَيْتِ نَصًّا، وَالْبَيْتُ غَيْرُ الدَّارِ فَبِالْوُصُولِ إلَى صَحْنِ الدَّارِ صَارَتْ خَارِجَةً مِنْ الْبَيْتِ، بِخِلَافِ مَا لَوْ حَلَفَ أَنْ لَا تَخْرُجَ؛ لِأَنَّ مَقْصُودَهُ هُنَا الْخُرُوجُ إلَى السِّكَّةِ، وَالْوُصُولُ إلَى مَوْضِعٍ يَرَاهَا النَّاسُ فِيهِ، وَلَا يُوجَدُ ذَلِكَ بِخُرُوجِهَا إلَى صَحْنِ الدَّارِ، وَإِنْ حَلَفَ لَا يَدْخُلُ فُلَانٌ بَيْتَهُ، فَدَخَلَ دَارِهِ لَمْ يَحْنَثْ؛ لِمَا بَيَّنَّا أَنَّهُ سَمَّى الْبَيْتَ نَصًّا، وَالدَّارُ غَيْرُ الْبَيْتِ، فَالدَّاخِلُ فِي الدَّارِ لَا يَكُونُ دَاخِلًا فِي الْبَيْتِ، أَلَا تَرَى أَنَّ الْإِنْسَانَ قَدْ يَأْذَنُ لِغَيْرِهِ فِي دُخُولِ دَارِهِ وَلَا يَأْذَنُ فِي دُخُولِ بَيْتِهِ.
وَلَوْ حَلَفَ عَلَى امْرَأَتِهِ أَنْ لَا تَخْرُجَ مِنْ بَابِ هَذِهِ الدَّارِ، فَخَرَجَتْ مِنْ غَيْرِ الْبَابِ لَمْ يَحْنَثْ؛ لِأَنَّهُ حَلَفَ بِتَسْمِيَةِ الْبَابِ.
فَإِنْ قِيلَ: مَقْصُودُهُ مَنْعُهَا مِنْ الْخُرُوجِ لِكَيْ لَا يَرَاهَا الْأَجَانِبُ، وَذَلِكَ لَا يَخْتَلِفُ بِالْبَابِ وَغَيْرِ الْبَابِ.
(قُلْنَا): اعْتِبَارُ مَقْصُودِهِ يَكُونُ مَعَ مُرَاعَاةِ لَفْظِهِ، وَلَا يَجُوزُ إلْغَاءُ اللَّفْظِ لِاعْتِبَارِ الْمَقْصُودِ، ثُمَّ قَدْ يَمْنَعُهَا مِنْ الْخُرُوجِ إلَى الْبَابِ؛ لِكَيْ لَا يَرَاهَا الْجَارُ الْمُحَاذِي، وَرُبَّمَا يَتَّهِمُهَا بِإِنْسَانٍ إذَا خَرَجَتْ مِنْ الْبَابِ رَآهَا، وَإِنْ خَرَجَتْ مِنْ غَيْرِ الْبَابِ لَمْ يَرَهَا، وَرُبَّمَا يَكُونُ عَلَى الْبَابِ كَلْبٌ عَقُورٌ، فَكَانَ تَقْيِيدُ الْبَابِ مُفِيدًا فَيَجِبُ اعْتِبَارُهُ، وَكَذَلِكَ لَوْ حَلَفَ عَلَى بَابٍ بِعَيْنِهِ، فَخَرَجَتْ مِنْ بَابٍ آخَرَ لَمْ يَحْنَثْ مُرَاعَاةً لِلَفْظِهِ، أَلَا تَرَى أَنَّ يَعْقُوبَ عَلَيْهِ السَّلَامُ قَالَ لِأَوْلَادِهِ عَلَيْهِمْ السَّلَامُ: {لَا تَدْخُلُوا مِنْ بَابٍ وَاحِدٍ وَادْخُلُوا مِنْ أَبْوَابٍ مُتَفَرِّقَةٍ} وَكَانَ ذَلِكَ مِنْهُ أَمْرًا بِمَا هُوَ مُفِيدٌ.
وَإِنْ حَلَفَ أَنْ لَا تَخْرُجَ إلَّا بِإِذْنِهِ، فَأَذِنَ لَهَا مِنْ حَيْثُ لَا تَسْمَعُ، لَمْ يَكُنْ إذْنًا فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ رَحِمَهُمَا اللَّهُ تَعَالَى وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى: هُوَ إذْنٌ؛ لِأَنَّ الْإِذْنَ فِعْلُ الْأَذَانِ يَتِمُّ بِهِ كَالرِّضَا، وَلَوْ حَلَفَ أَنْ لَا تَخْرُجَ إلَّا بِرِضَاهُ فَرَضِيَ بِذَلِكَ، وَلَمْ تَسْمَعْ فَخَرَجَتْ لَمْ يَحْنَثْ، فَهَذَا مِثْلُهُ وَأَبُو حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٌ رَحِمَهُمَا اللَّهُ تَعَالَى قَالَا: الْإِذْنُ إمَّا أَنْ يَكُونَ مُشْتَقًّا مِنْ الْوُقُوعِ فِي الْإِذْنِ، وَذَلِكَ لَا يَحْصُلُ إلَّا بِالسَّمَاعِ، أَوْ يَكُونَ مُشْتَقًّا مِنْ الْأَذَانِ وَهُوَ الْإِعْلَامُ.
قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {وَأَذَانٌ مِنْ اللَّهِ وَرَسُولِهِ}.
وَذَلِكَ لَا يَحْصُلُ إلَّا بِالسَّمَاعِ، بِخِلَافِ الرِّضَا فَإِنَّهُ بِالْقَلْبِ، يَكُونُ تَوْضِيحُهُ: أَنَّ مَقْصُودَهُ مِنْ هَذَا أَنْ لَا تَتَجَاسَرَ بِالْخُرُوجِ قَبْلَ أَنْ تَسْتَأْذِنَهُ، وَهَذَا الْمَقْصُودُ لَا يَحْصُلُ إذَا لَمْ تَسْمَعْ بِإِذْنِهِ، فَكَانَ وُجُودُهُ كَعَدَمِهِ.
وَلَوْ حَلَفَ عَلَيْهَا لَا تَخْرُجُ مِنْ الْمَنْزِلِ إلَّا فِي كَذَا فَخَرَجَتْ لِذَلِكَ مَرَّةً، ثُمَّ خَرَجَتْ فِي غَيْرِهِ حَنِثَ لِوُجُودِ الْخُرُوجِ لَا عَلَى الْوَجْهِ الْمُسْتَثْنَى، فَإِنْ كَانَ عَنَى لَا تَخْرُجُ هَذِهِ الْمَرَّةَ إلَّا فِي كَذَا، فَخَرَجَتْ فِيهِ، ثُمَّ خَرَجَتْ فِي غَيْرِهِ لَمْ يَحْنَثْ؛ لِأَنَّهُ خَصَّ اللَّفْظَ الْعَامَّ بِنِيَّتِهِ، وَإِنْ خَرَجَتْ لِذَلِكَ ثُمَّ بَدَا لَهَا فَانْطَلَقَتْ فِي حَاجَةٍ أُخْرَى، وَلَمْ تَنْطَلِقْ فِي ذَلِكَ الشَّيْءِ لَمْ يَحْنَثْ؛ لِأَنَّ خُرُوجَهَا بِالصِّفَةِ الْمُسْتَثْنِي، ثُمَّ بَعْدَ ذَلِكَ وَجَدَ مِنْهَا الذَّهَابَ فِي حَاجَةٍ أُخْرَى لَا الْخُرُوجَ، وَشَرْطُ حِنْثِهِ الْخُرُوجُ.
وَإِنْ حَلَفَ عَلَيْهَا أَنْ لَا تَخْرُجَ مَعَ فُلَانٍ مِنْ الْمَنْزِلِ، فَخَرَجَتْ مَعَ غَيْرِهِ، أَوْ خَرَجَتْ وَحْدَهَا، ثُمَّ لَحِقَهَا فُلَانٌ لَمْ يَحْنَثْ؛ لِأَنَّ الْخُرُوجَ الِانْفِصَالُ مِنْ الدَّاخِلِ إلَى الْخَارِجِ، وَلَمْ تَكُنْ مَعَ فُلَانٍ، وَذَلِكَ شَرْطُ حِنْثِهِ، فَلِهَذَا لَا يَحْنَثُ، وَإِنْ لَحِقَهَا فُلَانٌ بَعْدَ ذَلِكَ، وَكَذَلِكَ لَوْ حَلَفَ لَا يَدْخُلُ فُلَانٌ عَلَيْهَا بَيْتًا فَدَخَلَ فُلَانٌ أَوَّلًا، ثُمَّ دَخَلَتْ هِيَ فَاجْتَمَعَا فِيهِ لَمْ يَحْنَثْ؛ لِأَنَّهَا دَخَلَتْ عَلَى فُلَانٍ، وَشَرْطُ حِنْثِهِ دُخُولُ فُلَانٍ عَلَيْهَا، وَإِنْ حَلَفَ عَلَيْهَا أَنْ لَا تَخْرُجَ مِنْ الدَّارِ فَدَخَلَتْ بَيْتًا أَوْ كَنِيفًا فِي عُلُوِّهَا شَارِعًا إلَى الطَّرِيقِ الْأَعْظَمِ، لَمْ يَكُنْ خُرُوجُهَا إلَى هَذَا الْمَوْضِعِ خُرُوجًا مِنْ الدَّارِ عَلَى مَا بَيَّنَّا أَنَّ الْوَصْلَ إلَى هَذَا الْمَوْضِعِ يَكُونُ دَاخِلًا فِي الدَّارِ، فَلَا تَصِيرُ خَارِجَةً مِنْ الدَّارِ بِالْوُصُولِ إلَيْهِ.
وَاَللَّهُ أَعْلَمُ بِالصَّوَابِ.